كتب للشرق تريبيون - المستشار جابر حيدر
لا أتذكر اسم الفيلسوف الذي قال: "ليس لي أصدقاء أو أعداء فالكل لي معلم" .... وتقول الحكمة الدارجة أن الانسان يظل يتعلم حتى يموت ..فشكرا لكل من أعطاني درسا ...شكرا لمن صدقوني القول وشكرا لمن خدعوني وكذبوا ..شكرا لكل أولاد الحلال وشكرا جزيلا لكل أولاد الحرام.
ورغم أنني أؤمن بالمثل الانجليزي "لا تتصارع مع خنزير في الوحل "ورغم أن صورة الزعيم الوطني سعد زغلول لم تفارق خيالي خلال تلك الفترة العصيبة إلا أنني تحت مؤثرات كثيرة سقطت في الوحل وتصارعت مع أكثر من خنزير.
أعتذر لكل الاوفياء الذين ساندوني بإخلاص خلال هذه الفترة وأقبل رؤوسهم جميعا وأطلب منهم السماح خاصة الذين لم يخفوا عني حقيقة الوحل الذي أقدمت على الخوض فيه والذين قالوا لي بكل اخلاص أن هذا ليس زمنك وواجهوني بحقيقتي وهي أنني ركبت آلة الزمن وجئت من الماضي البعيد إلى الحاضر البغيض وأنني دون كيشوت الذي جاء من زمن الفروسية الى زمن مات فيه كل الفرسان.
وليسامحني كل الذين كان يحدوهم الأمل أن أصل إلى مقعد البرلمان لأكون ممثلا لهم وليسامحني كل المثقفين الشرفاء الذين ساندوا القلم وأرادوا له ذلك المكان والذين بذلوا جهدا كبيرا بكل إخلاص من أهلي وأصدقائي، وأقول لهم: سامحوني على جهدكم الذي ضاع سدى وأعلن أمامهم لأول مرة أنني كنت قد قررت بالفعل أن أترك هذه المعركة التي تدور في الوحل في مرحلة مبكرة ولكني تراجعت وأحسست أنني في مأزق وخشيت أن تنزعوا عني صفة الشجاعة والإقدام والثقة بالنفس وخشيت أن اتهم بخيانة أحلام وتطلعات الذين وقفوا إلى جواري وكان ما كان ولله الأمر من قبل ومن بعد.
والآن أغادر الوحل وأعود إلى خلوتي وعزلتي وقلمي ودفتري ودواتي، خاصة وأن الوحل ليس حالة قصيرة الأجل ولكنه مستمر ...
كانت محطة الانتخابات أسوأ محطة في حياتي لأني قابلت فيها أردأ انواع البشر وأكثرهم انحطاطا ومنهم من باعني بأرخص الأثمان ..... حاولت كثيرا أن أنجو من مصير الحلاج الذي كافح من أجل الغلابة الذين خرج من بينهم فكان هؤلاء الغلابة سببا لشنقه وكانوا أول من نادى بإعدامه...
لم تكن كلمة الكراتين حينها قد ظهرت بعد ولم تكن الجمعيات( الخيرية) قد ظهرت كأدوات من أدوات السياسة ولم يكن أصحاب المال الحرام والمتهربون من سداد الضرائب قد ظهروا ولم يكن شراء الأصوات قد عرف ولم تكن كلمات مثل الزلط والسن والمواسير وتوزيع اللحوم والزيت والترامادول قد دخلت قاموس الحياة السياسية في البلاد.
حاولت كثيرا وناديت على أهل الثقافة وأهل العلم حتى بح صوتي ولكن بضاعتي لم تجد من يشتريها وهزمت أمام الكراتين والسكر والزيت والأموال الحرام التي أغرقت الدنيا من حولي ليلة الانتخابات فسقط الوعي في مواجهة غير متكافئة ورأيت الوعي وهو يبكي ويقول ليس لي بنات وليس لي بنون.
وإذا حدثتكم مرة أخرى عن الوعي أو معركة الوعي فلا تصدقوني ولا تستمعوا إلي فأنا مواطن من زمن الوهم رفض أن يستمع لنصيحة سعد زغلول. وكان ولابد أن تأتي اللحظة المأساوية ويتم شنق الحلاج.. وبعد أن تم شنق الحلاج وأصبحت جثته معلقة على المشنقة وقف الغلابة يهتفون بقصيدة صلاح عبد الصبور:
صفونا صفا صفا
الأجهر صوتا والأطول
وضعوه في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
وضعوه في الصف الثاني
أعطونا دينارا من ذهب قاني
براقا لم تلمسه كف من قبل
قالوا صيحوا زنديق كافر
صحنا زنديق كافر
قولوا فليقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا
قلنا فليقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا
قالوا امضوا فمضينا
الأجهر صوتا والأطول
فليمضي في الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتواني
فليمضي في الصف الثاني .....
كانت الانتخابات في الماضي يتم تزويرها وفقا لقواعد زمن المحراث البلدي عن طريق مسئولين حكوميين ولكن انتخابات اليوم يزورها الشعب بيديه.. يزورها الجوع والفقر والمرض، فالجائع أسير لمن يعطيه لقمة والذي يحتاج إلى العلاج أسير لمن يعطيه علبة دواء وبالتالي فأي شخص من القائمين على العمل ( الخيري) حتى وإن كان جاهلا يستطيع أن يصبح عضوا في البرلمان بأموال الأغنياء وبمعاناة الفقراء.
لقد تعلمت درسا من أقسى دروس حياتي والدروس القاسية هي أهم وأنفع شيء في حياتي، فهي التي صنعتني، وكما يقول الشاعر الفرنسي دي موسيه: " لا شيء يجعلنا عظماء سوى ألم عظيم ".
استفدت كثيرا من هذه التجربة المريرة ورغم قسوة الدرس فقد استطعت تجاوزه في دقائق بأمرين اثنين، الأمر الأول أنها ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها للغدر والخيانة ،وكما يقول الانجليز الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك ولطالما تعرضت من قبل إلى ضربات وضربات وخرجت بعدها أقوى مما كنت .
والأمر الثاني الذي ساعدني على تجاوز هذه المحنة هو أنني كنت أتوقع ما حدث وأعرف أن الغدر وارد ،ولا تعجب في زمن الجهالة اذا انتخب الناس صناع محنتهم وهتفوا بقتل من يسعى للارتقاء بهم كما هتف الفقراء طالبين الموت للحلاج الذي كافح من أجلهم.
لا فرق في زمن الجهالة بين عصفور يحلق أو ذباب ...لا فرق بين حديقة غناء أو أرض خراب ....