كتب للشرق تريبيون - عادل محمود
في قمة يفترض أنها عن السلام في غزة ، وقف أردوغان ينصح رئيسة وزراء إيطاليا بالإقلاع عن التدخين ، وترامب يمدح جمالها كأنه في برنامج مواهب ، وماكرون يضحك كأنه بيسمع نكتة عن حمو بيكا . والنتيجة ؟ السياسة العالمية تحولت إلى مسرح كبير ، بطله المزاح الثقيل ، وضحيته الذوق والعقل .
أردوغان ، الرجل الذي لا يضيع فرصة في تعليم الآخرين "كيف يعيشون" ، قرر أن يقدم ل "ميلوني" نصيحة صحية وسط القمة : "بطلي سجاير" . وكأن العلاقات الدولية أصبحت جزء من حملة للإقلاع عن التدخين .
الرجل كان صادقا في نبرته ، لكن الصدق وحده لا ينفي الوصاية .
هذه ليست مجاملة ، بل تذكير بأن حتى الزعيم عندما يرى امرأة ، أول ما يفعله هو أن يعلمها . ثم يأتي ترامب ، ذلك الذي لا يعرف الفرق بين السياسة والتوك شو .
الرجل افتتح خطابه بجملة يعرف أنها خاطئة : "مش المفروض أقول كده ، بس هقولك إنك جميلة" ، يخاطر بحياته المهنية من أجل تعليق سخيف . وكأن السياسة الأمريكية قائمة على "الإعجاب المتبادل" و"العيون الجميلة" .
ماكرون من جانبه ضحك ، والضحك في مثل هذه اللحظات ليس إلا موافقة مموهة . لأن الضحك هنا مش نابع من الفكاهة ، بل من راحة النفس حين يرى الرجال أنفسهم مجتمعين في ناد مغلق ، يتبادلون النكات عن المرأة الحاضرة الوحيدة ، التي تدعى "زميلة" .
هكذا تتحول "قمة دولية" إلى "كافيه رجال أعمال" فيه كلام عن الصحة والجمال ، بدل السيادة والسلام . ميلوني رغم أنها ليست بطلة في أعين أحدهم ، خرجت من المشهد أكثر رزانة من الجميع .
لم ترد ، لم تضحك ، فقط ابتسمت تلك الابتسامة الأوروبية الباردة التي تقول : "أنا هنا أعمل ، وأنتم تلعبون" .
ربما أدركت أن الرد على هذا النوع من المزاح لا يكسب المعركة ، بل يعطيها وقودا .
فاختارت الصمت ، وهو في هذه الحالة نوع من الكياسة السياسية التي لا يتقنها إلا من ذاق مرارة التمييز وقرر أن يتجاوزه بابتسامة .
المثير للسخرية أن أردوغان وترامب - رغم اختلاف كل شئ بينهما من اللغة إلى الشعر إلى أسلوب الصياح - يتشابهان في أمر واحد : كلاهما يعتقد أن الرجولة تقاس بالقدرة على "تصحيح" أو "مدح" النساء علنا .
هذان الزعيمان ، اللذان يتحدثان عن الحرية والسيادة ، لا يترددان في ممارسة سيادة صغيرة جدا : سيادة على الجسد الأنثوي والكلمة الموجهة له .
أردوغان أراد أن يبدو مربيا ، وترامب أراد أن يبدو لطيفا ، وكلاهما بديا كمن خرج من نكتة قديمة لم تعد تضحك أحدا .
المفارقة أن المشهد كله حدث في قمة للسلام ، كأن الرسالة الخفية هي : الرجال يتصالحون على حساب النساء . هذه ليست مجرد سقطة دبلوماسية ، بل مرآة لما لم يتغير في العالم الحديث .
فالمرأة مهما بلغت من سلطة ، يظل وجودها محكوما بنظرة ذكورية ترى فيها مشروع إصلاح أو إعجاب . ربما دون أن تدري ، أسست ميلوني لأسلوب جديد في مواجهة هذه الذكورية الراقية ، اللامبالاة الأنيقة .
الرد الصامت ، الذي يقول : "أنتم من العصور الوسطى ، وأنا من القرن الحادي والعشرين" .
هي لم تنتصر بالكلام ، بل بامتناعها عنه .
كأنها تقول لهم جميعا : "احكوا كما شئتم ، فالتاريخ سيكتب من وقف ساكتا باحترام ، ومن تكلم بإحراج" .
الدرس الأكبر هنا ليس عن التدخين أو الجمال ، بل عن اللياقة . كيف يمكن لعالم يزعم الدفاع عن المرأة أن يضحك حين تعامل كطالبة في مدرسة بنين ؟ هذه الحادثة لا تخص ميلوني وحدها ، بل تخص كل امرأة تدخل قاعة مليئة بالرجال وتقابل بنكتة قبل أن تقابل بفكرة .
لو كان في القاعة "مسئول عن الذوق العام" ، كان سيطلب من الجميع الإقلاع عن الكلام .