الجريدة العربية الاولى عند التأسيس ناطقة باللغة العربية والانجليزية والفرنسية ..مقرها لندن والقاهرة وقريبا فى دول الخليج و المغرب العربى

رئيس التحرير
محمد العطيفي
الشرق تريبيون
مستقلة. سياسية. دولية
الصوت العربي الى العالم
عاجل
الاعمدة والكتاب

فوز ممداني .. انعطافة سياسية في عاصمة المال الأمريكي

فوز ممداني ..      انعطافة سياسية في عاصمة المال الأمريكي

كتب للشرق تريبيون - عادل محمود 

في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية ، حيث تتقاذف الأمواج العاتية سفن السياسة التقليدية في الغرب ، تطل علينا نيويورك بكل ثقلها المالي والإعلامي والرمزي ، بحادثة سياسية أشبه بالزلزال الذي يعيد رسم الخرائط من أساسها .

لم يعد الانتصار الانتخابي لمرشح شاب مجرد حدث عابر ، بل إعلان عن مولود سياسي جديد ، وقبلة للتيار التقدمي العالمي ، وصفعة لمنطق "الوسط المعقول" و"الواقعية العملية" التي حكمت السياسة الأمريكية لعقود .

  لم يتوقع أحد من مراكز الأبحاث والاستطلاعات أن يحقق "زهران ممداني" ، الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر 34 عاما ، هذا الانتصار الساحق ، متفوقا على "أندرو كومو" ، الحاكم السابق صاحب الخبرة والصلات العميقة داخل مؤسسة الحزب الديمقراطي ، والذي شن حملته كمرشح مستقل ، متسلحا بشبكة من العلاقات والامتيازات التي كونها على مدى أربعين عاما . كما تفوق ممداني على "كورتيس سليوا" ، المرشح الجمهوري المؤيد لترامب ، الذي حاول حشد ما تبقى من قاعدة اليمين الشعبوي في المدينة .

  الأرقام النهائية كانت صادمة للجميع : 52% لممداني ، مقابل 28% لكومو ، و14% لسليوا ، وفقا لاستطلاعات فوكس نيوز . الأهم من ذلك ، الإقبال الانتخابي الهائل الذي تجاوز المليونين ، وهو الأعلى في سباق انتخابات عمدة مدينة نيويورك منذ أكثر من خمسين عاما .

إنه مؤشر واضح على أن الناخب ، الذي طالما اتهم بالسلبية واللامبالاة ، يعود إلى صناديق الاقتراع حين يجد من يعبر عن هواجسه الحقيقية ويلمس جراحه اليومية .

الأكثر دلالة في هذا السياق هو التدخل الفج للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ، الذي حاول عبر منصته "تروث سوشيال" إنقاذ حملة كومو ، وحث أنصاره على دعمه ، بل وهدد صراحة بتقليص التمويل الفيدرالي المقدم لنيويورك في حال فوز ممداني ، واصفا إياه بـ"كارثة قادمة" و"شيوعي" .

لكن تهديدات ترامب ، بدل من أن تضعف حماس الناخبين ، زادتهم إصرارا على معاقبة المؤسسة بكل ألوانها اليمينية والوسطى على حد سواء .

تحليل استراتيجية الفوز : تشريح "المعجزة"

أولا : الأولوية الاقتصادية واستعادة الكرامة المالية

- نجح ممداني في تحويل الانتخابات من نقاش حول الهويات والثقافات إلى نقاش صريح حول الطبقية والعدالة الاجتماعية . كانت رسالته واضحة وجريئة : المشكلة ليست في لون جلدك أو دينك ، بل في أن النظام الاقتصادي القائم يسرق منك حقك في حياة كريمة .

- ركز ممداني بلا كلل على أزمة تكلفة المعيشة في واحدة من أغلى مدن العالم ، مقدما حزمة من الحلول الجذرية التي وصفها الخصوم بـ"الخيالية" ، لكنها استقرت في وعي الناخب العادي كحلول ممكنة وضرورية :

- تجميد الإيجارات لملايين المستأجرين الذين يخنقهم ارتفاع الأسعار .

- توفير حافلات المدينة المجانية لتخفيف العبء عن الفقراء والعمال .

- إنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة لمواجهة احتكار كبار التجار وارتفاع أسعار الغذاء .

- تمويل رعاية الأطفال الشاملة من خلال الضرائب التصاعدية على الأثرياء . هذا التركيز على "الكرامة الاقتصادية" مكنه من اختراق جميع الخطوط الديموغرافية والعرقية والدينية ، في توبيخ مباشر ومذل لكل الخطابات السياسية الوسطى التي تتغنى بـ"الاعتدال" بينما تفرط في الحقوق الأساسية للمواطنين .

ثانيًا : قوة البنية التحتية للحركة والتعبئة الشعبية خارج الصندوق لم يكن فوز ممداني صدفة أو نتاج خطاب شعبي جذاب فقط ، بل كان تتويجا لجهد تنظيمي ضخم قادته منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في نيويورك (NYC DSA).. أثبتت هذه الحملة أن "سياسة الحركة" قادرة على هزيمة "سياسة الآلة" حين تدار ببراعة .

قدمت المنظمة نموذجا تنظيميا فريدا شمل :

- جيش من المتطوعين تجاوز عددهم 50 ألف متطوع ، كل منهم مؤمن برسالة الحملة .

- تواصل مباشر مع الناخبين ، حيث طرق أكثر من 1.5 مليون باب ، في عمل ميداني شاق طوال أشهر .

- هيكل قيادي متعدد المستويات ، مع تدريب 430 قائدا ميدانيا أشرفوا على عمل المتطوعين .

- استهداف غير الناخبين ، عبر التركيز على شريحة الشباب والمجتمعات المهاجرة المهمشة ، التي غالبا ما تشعر بأن السياسة لا تعنيها . النتيجة كانت مذهلة : في الدوائر التي فاز فيها ممداني ، قفزت نسبة المشاركة بأكثر من 40% مقارنة بالانتخابات السابقة . هذا النموذج يثبت أن الفوز الحقيقي لا يأتي من إقناع الناخبين المتذبذبين فقط. ، بل من خلق ناخبين جدد وتوسيع دائرة المشاركة إلى أقصى حد .

ثالثا : التحالف الشامل وتقاطع الهوية والطبقة

تمكن ممداني من بناء تحالف واسع أعاد تعريف القاعدة الانتخابية للسياسات التقدمية . لم يعد اليسار مقتصرا على النخب الليبرالية البيضاء ، بل أصبح قادرا على اجتذاب تحالف متعدد الأعراق والطبقات :

67% من أصوات الناخبين من أصول آسيوية .

50% من أصوات الناخبين من أصول لاتينية .

48% من أصوات الناخبين من أصول أفريقية .

دعم معتبر من الناخبين البيض بلغ 37% .

استخدم ممداني هويته المركبة - مولود في أوغندا ، من أصل هندي ، مسلم - ليس مجرد رمز شكلي ، بل كجسر للتواصل مع المهمشين ، ودليل على أن "الآخر الأمريكي" لم يعد هامشا ، بل أصبح في صلب صناعة القرار .

  كما كتب روس باركان في تحليله لصحيفة نيويورك تايمز ، سيكون ممداني بلا شك أقوى سياسي يساري في أمريكا بعد فوزه بمنصب عمدة نيويورك . سيكون مسؤولًا عن :

- أكبر قوة شرطة في أمريكا ، في اختبار صعب لوعوده بإصلاح منظومة العدالة الجنائية .

- أكبر منظومة تعليمية في البلاد ، حيث سيكون تطبيق رؤيته التقدمية تحديا كبيرا .

- ميزانية بلدية تجاوزت 110 مليار دولار ، أكبر من ميزانيات العديد من الدول .

- إدارة مدينة توظف 325 ألف شخص وتنفق 21 مليار دولار لتثقيف أكثر من 1.1 مليون طالب .

هذه الصلاحيات تمنحه منصة غير مسبوقة لاختبار وتطبيق السياسات التقدمية في قلب عاصمة الرأسمالية العالمية . نجاحه هنا سيفتح الباب أمام موجة جديدة من المرشحين التقدميين ، ويعيد ترتيب موازين القوى داخل الحزب الديمقراطي لصالح جناحه اليساري .

الطريق أمام ممداني لن يكون مفروشا بالورود ، فهو يواجه تحديات جسيمة في تحقيق التوازن بين وعوده الطموحة والواقع الإداري والمالي المعقد :

- الوفاء بوعود حملته الانتخابية في مواجهة مستشارين سيخبرونه بأنها "غير واقعية" .

- إدارة توقعات قاعدته المتنوعة في مدينة غاية في التنوع عرقيا ودينيا واجتماعيا وسياسيا .

- التعامل مع معارضة سياسية واقتصادية قوية ، ليس أقلها تهديدات ترامب بتقليص التمويل الفيدرالي وتربص وسائل الإعلام عند أول خطأ .

  يمثل فوز زهران ممداني أكثر من مفاجأة سياسية محلية ، فهو علامة فارقة في المسار السياسي الأمريكي ودرس عميق للمراقبين في كل مكان . قدمت حملته مخططا عمليا وقابلا للتطبيق لقوى التغيير التي تسعى لتحدي المؤسسات السياسية والمالية الراسخة .

صعود ممداني يعطي مصداقية للديمقراطيين الذين حثوا الحزب على احتضان المزيد من المرشحين التقدميين واليساريين بدلا من التجمع خلف الوسطيين الذين يفقدون الحزب روحه وتميزه . وقد يكون مؤشرا على تحول أعمق في التحالفات السياسية الأمريكية قبل الانتخابات النصفية المقبلة .

  سواء أنجز ممداني كل ما وعد به أم اصطدم بقيود الواقع والسلطة ، فإن دروس حملته - في أولوية الاقتصاد ، قوة التنظيم الشعبي ، وبناء تحالفات جديدة - ستستمر في التأثير على السياسة الأمريكية والعالمية لسنوات قادمة . لقد أثبت أن المستحيل سياسيا ليس سوى وهم صنعته النخب الخائفة ، وأن الجديد دائما يأتي من حيث لا تحتسب الحسابات .

 

 

 

إضافة تعليق

لن يتم نشر البريد الإلكتروني

ذات صلة

الشرق تريبيون
عادة ما يتم الرد خلال 5 دقائق
الشرق تريبيون
أهلا وسَهلًا 👋

كيف يمكننا تقديم المساعدة؟
بدء المحادثة