كتب للشرق تريبيون - عادل محمود
في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية ، حيث تتقاذف الأمواج العاتية سفن السياسة التقليدية في الغرب ، تطل علينا نيويورك بكل ثقلها المالي والإعلامي والرمزي ، بحادثة سياسية أشبه بالزلزال الذي يعيد رسم الخرائط من أساسها .
لم يعد الانتصار الانتخابي لمرشح شاب مجرد حدث عابر ، بل إعلان عن مولود سياسي جديد ، وقبلة للتيار التقدمي العالمي ، وصفعة لمنطق "الوسط المعقول" و"الواقعية العملية" التي حكمت السياسة الأمريكية لعقود .
لم يتوقع أحد من مراكز الأبحاث والاستطلاعات أن يحقق "زهران ممداني" ، الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر 34 عاما ، هذا الانتصار الساحق ، متفوقا على "أندرو كومو" ، الحاكم السابق صاحب الخبرة والصلات العميقة داخل مؤسسة الحزب الديمقراطي ، والذي شن حملته كمرشح مستقل ، متسلحا بشبكة من العلاقات والامتيازات التي كونها على مدى أربعين عاما . كما تفوق ممداني على "كورتيس سليوا" ، المرشح الجمهوري المؤيد لترامب ، الذي حاول حشد ما تبقى من قاعدة اليمين الشعبوي في المدينة .
الأرقام النهائية كانت صادمة للجميع : 52% لممداني ، مقابل 28% لكومو ، و14% لسليوا ، وفقا لاستطلاعات فوكس نيوز . الأهم من ذلك ، الإقبال الانتخابي الهائل الذي تجاوز المليونين ، وهو الأعلى في سباق انتخابات عمدة مدينة نيويورك منذ أكثر من خمسين عاما .
إنه مؤشر واضح على أن الناخب ، الذي طالما اتهم بالسلبية واللامبالاة ، يعود إلى صناديق الاقتراع حين يجد من يعبر عن هواجسه الحقيقية ويلمس جراحه اليومية .
الأكثر دلالة في هذا السياق هو التدخل الفج للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ، الذي حاول عبر منصته "تروث سوشيال" إنقاذ حملة كومو ، وحث أنصاره على دعمه ، بل وهدد صراحة بتقليص التمويل الفيدرالي المقدم لنيويورك في حال فوز ممداني ، واصفا إياه بـ"كارثة قادمة" و"شيوعي" .
لكن تهديدات ترامب ، بدل من أن تضعف حماس الناخبين ، زادتهم إصرارا على معاقبة المؤسسة بكل ألوانها اليمينية والوسطى على حد سواء .
تحليل استراتيجية الفوز : تشريح "المعجزة"
أولا : الأولوية الاقتصادية واستعادة الكرامة المالية
- نجح ممداني في تحويل الانتخابات من نقاش حول الهويات والثقافات إلى نقاش صريح حول الطبقية والعدالة الاجتماعية . كانت رسالته واضحة وجريئة : المشكلة ليست في لون جلدك أو دينك ، بل في أن النظام الاقتصادي القائم يسرق منك حقك في حياة كريمة .
- ركز ممداني بلا كلل على أزمة تكلفة المعيشة في واحدة من أغلى مدن العالم ، مقدما حزمة من الحلول الجذرية التي وصفها الخصوم بـ"الخيالية" ، لكنها استقرت في وعي الناخب العادي كحلول ممكنة وضرورية :
- تجميد الإيجارات لملايين المستأجرين الذين يخنقهم ارتفاع الأسعار .
- توفير حافلات المدينة المجانية لتخفيف العبء عن الفقراء والعمال .
- إنشاء متاجر بقالة مملوكة للمدينة لمواجهة احتكار كبار التجار وارتفاع أسعار الغذاء .
- تمويل رعاية الأطفال الشاملة من خلال الضرائب التصاعدية على الأثرياء . هذا التركيز على "الكرامة الاقتصادية" مكنه من اختراق جميع الخطوط الديموغرافية والعرقية والدينية ، في توبيخ مباشر ومذل لكل الخطابات السياسية الوسطى التي تتغنى بـ"الاعتدال" بينما تفرط في الحقوق الأساسية للمواطنين .
ثانيًا : قوة البنية التحتية للحركة والتعبئة الشعبية خارج الصندوق لم يكن فوز ممداني صدفة أو نتاج خطاب شعبي جذاب فقط ، بل كان تتويجا لجهد تنظيمي ضخم قادته منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في نيويورك (NYC DSA).. أثبتت هذه الحملة أن "سياسة الحركة" قادرة على هزيمة "سياسة الآلة" حين تدار ببراعة .
قدمت المنظمة نموذجا تنظيميا فريدا شمل :
- جيش من المتطوعين تجاوز عددهم 50 ألف متطوع ، كل منهم مؤمن برسالة الحملة .
- تواصل مباشر مع الناخبين ، حيث طرق أكثر من 1.5 مليون باب ، في عمل ميداني شاق طوال أشهر .
- هيكل قيادي متعدد المستويات ، مع تدريب 430 قائدا ميدانيا أشرفوا على عمل المتطوعين .
- استهداف غير الناخبين ، عبر التركيز على شريحة الشباب والمجتمعات المهاجرة المهمشة ، التي غالبا ما تشعر بأن السياسة لا تعنيها . النتيجة كانت مذهلة : في الدوائر التي فاز فيها ممداني ، قفزت نسبة المشاركة بأكثر من 40% مقارنة بالانتخابات السابقة . هذا النموذج يثبت أن الفوز الحقيقي لا يأتي من إقناع الناخبين المتذبذبين فقط. ، بل من خلق ناخبين جدد وتوسيع دائرة المشاركة إلى أقصى حد .
ثالثا : التحالف الشامل وتقاطع الهوية والطبقة
تمكن ممداني من بناء تحالف واسع أعاد تعريف القاعدة الانتخابية للسياسات التقدمية . لم يعد اليسار مقتصرا على النخب الليبرالية البيضاء ، بل أصبح قادرا على اجتذاب تحالف متعدد الأعراق والطبقات :
67% من أصوات الناخبين من أصول آسيوية .
50% من أصوات الناخبين من أصول لاتينية .
48% من أصوات الناخبين من أصول أفريقية .
دعم معتبر من الناخبين البيض بلغ 37% .
استخدم ممداني هويته المركبة - مولود في أوغندا ، من أصل هندي ، مسلم - ليس مجرد رمز شكلي ، بل كجسر للتواصل مع المهمشين ، ودليل على أن "الآخر الأمريكي" لم يعد هامشا ، بل أصبح في صلب صناعة القرار .
كما كتب روس باركان في تحليله لصحيفة نيويورك تايمز ، سيكون ممداني بلا شك أقوى سياسي يساري في أمريكا بعد فوزه بمنصب عمدة نيويورك . سيكون مسؤولًا عن :
- أكبر قوة شرطة في أمريكا ، في اختبار صعب لوعوده بإصلاح منظومة العدالة الجنائية .
- أكبر منظومة تعليمية في البلاد ، حيث سيكون تطبيق رؤيته التقدمية تحديا كبيرا .
- ميزانية بلدية تجاوزت 110 مليار دولار ، أكبر من ميزانيات العديد من الدول .
- إدارة مدينة توظف 325 ألف شخص وتنفق 21 مليار دولار لتثقيف أكثر من 1.1 مليون طالب .
هذه الصلاحيات تمنحه منصة غير مسبوقة لاختبار وتطبيق السياسات التقدمية في قلب عاصمة الرأسمالية العالمية . نجاحه هنا سيفتح الباب أمام موجة جديدة من المرشحين التقدميين ، ويعيد ترتيب موازين القوى داخل الحزب الديمقراطي لصالح جناحه اليساري .
الطريق أمام ممداني لن يكون مفروشا بالورود ، فهو يواجه تحديات جسيمة في تحقيق التوازن بين وعوده الطموحة والواقع الإداري والمالي المعقد :
- الوفاء بوعود حملته الانتخابية في مواجهة مستشارين سيخبرونه بأنها "غير واقعية" .
- إدارة توقعات قاعدته المتنوعة في مدينة غاية في التنوع عرقيا ودينيا واجتماعيا وسياسيا .
- التعامل مع معارضة سياسية واقتصادية قوية ، ليس أقلها تهديدات ترامب بتقليص التمويل الفيدرالي وتربص وسائل الإعلام عند أول خطأ .
يمثل فوز زهران ممداني أكثر من مفاجأة سياسية محلية ، فهو علامة فارقة في المسار السياسي الأمريكي ودرس عميق للمراقبين في كل مكان . قدمت حملته مخططا عمليا وقابلا للتطبيق لقوى التغيير التي تسعى لتحدي المؤسسات السياسية والمالية الراسخة .
صعود ممداني يعطي مصداقية للديمقراطيين الذين حثوا الحزب على احتضان المزيد من المرشحين التقدميين واليساريين بدلا من التجمع خلف الوسطيين الذين يفقدون الحزب روحه وتميزه . وقد يكون مؤشرا على تحول أعمق في التحالفات السياسية الأمريكية قبل الانتخابات النصفية المقبلة .
سواء أنجز ممداني كل ما وعد به أم اصطدم بقيود الواقع والسلطة ، فإن دروس حملته - في أولوية الاقتصاد ، قوة التنظيم الشعبي ، وبناء تحالفات جديدة - ستستمر في التأثير على السياسة الأمريكية والعالمية لسنوات قادمة . لقد أثبت أن المستحيل سياسيا ليس سوى وهم صنعته النخب الخائفة ، وأن الجديد دائما يأتي من حيث لا تحتسب الحسابات .