كتب للشرق تريبيون - عادل محمود
ليست "سوزي الأردنية" سوى الاسم الأخير في قائمة طويلة من ضحايا زمن صار فيه الضوء أقسى من الظلام . قضية بدت في ظاهرها بسيطة : فتاة مراهقة تحاكم بتهمة "السعي إلى الشهرة الزائفة" ، لكنها في جوهرها تشبه محاكمة مجتمع فقد معيار القيمة ، وراح يجلد مرآته بدل أن يواجه صورته .
حين تقف النيابة لتقول إن المتهمة "لم تهتم بدراستها" ، فهي تكشف تناقضا صارخا : أي تعليم نطلب احترامه بينما الواقع نفسه يهمش المعرفة ؟ الفضائيات التي تبث على مدار الساعة برامج تفاهة وترويج لنجوم اللحظة ، هي الوجه الآخر ل"سوزي" . المجتمع الذي يحاكمها هو نفسه الذي صاغ أدواتها ، وشجعها ، ثم تبرأ منها عندما عكست صورته بوضوح شديد .
في العقدين الأخيرين ، تحول مفهوم "الشهرة" من اعتراف اجتماعي بالإنجاز إلى سلعة قابلة للشراء . في العقدين الأخيرين ، تحول مفهوم "الشهرة" من اعتراف اجتماعي بالإنجاز إلى سلعة قابلة للشراء .
في مصر ، ولبنان ، والأردن ، ظهرت موجة من "المؤثرين" الذين جمعوا ملايين المتابعين عبر محتوى فارغ ، ثم انتهى بعضهم إلى السجن بتهم تتراوح بين "خدش الحياء" و"الاتجار بالبشر" . لكن القاسم المشترك ليس الجريمة ، بل السياق الذي جعل الجسد والخطاب الصادم هما اللغة الوحيدة المسموعة في الفضاء العام .
الشهرة هنا ليست تمردا ، بل انعكاس لاقتصاد يربط الوجود بالمرئي ، لا بالفعل .
تقرأ هذه الظاهرة كعرض لمرض أعمق : الاغتراب الثقافي في مجتمع يعيش بين خطاب الحداثة وممارسة الاستهلاك . كأننا دخلنا القرن الحادي والعشرين بأدوات القرن العشرين ، وبروح ما زالت أسيرة الأبوية والرقابة والازدواج الأخلاقي .
فالفتيات اللاتي يحاكمن اليوم على مقاطع مصورة ، يعبرن - بوعي أو بدونه - عن انفجار مكبوت : رغبة في أن يسمع صوتهن ، في فضاء لا يمنحهن سوى دور "المحظورات" .
القضية إذن ليست عن فتاة خرجت عن السياق ، بل عن سياق يلفظ كل محاولة للوجود الفردي خارج المعايير القديمة .
القانون يحاكم الفعل ، لكنه لا يملك محاكمة العصر . ففي هذا العصر ، لا أحد برئ تماما : كلنا نعيش داخل معادلة "شاهدني إذن أنا موجود" . من السياسي الذي يتباهى بعدد متابعيه ، إلى المثقف الذي يقيس أثره بعدد المشاركات .
ربما تكون "سوزي" مذنبة من وجهة القانون ، لكن المجتمع الذي يجرها إلى المقصلة ينسى أنه شريك في الجريمة .
جريمة تحويل الإنسان إلى علامة تجارية ، والوعي إلى مادة خام في سوق المشاهدات . ولعل أول طريق الخلاص أن نكف عن شيطنة الأفراد ، وأن نعيد النظر في المنظومة التي تنتجهم - لأن "سوزي" ليست إلا عرضا ، أما المرض فهو فينا جميعا .