كتب : حامد الشريفى
وصول ترامب إلى محادثاته مع بوتين لم يكن صدفة.
إذ جاء بعد أن حسم استقرار الحرب التجارية مع الصين، وأبرم السلام بين أذربيجان وأرمينيا.
لكن جذور هذه التحولات تعود إلى الحرب الإسرائيلية–الإيرانية التي قلبت موازين العالم. ففي 12 يومًا فقط، جُرّدت إيران من صورتها وهيبتها.
الدولة التي اعتمدت عليها الصين وروسيا شريكاً عسكريًا ونفطيًا أُذلّت أمام إسرائيل، فيما وقفت كتلة البريكس صامتة.
“الهدنة” التي اشترتها طهران بتهديد هرمز لم تكن سوى انتحار سياسي، خصوصًا في عيون بكين.
النتيجة: المحور الصيني–الروسي–الإيراني تفكك عند أضعف حلقاته.
إسرائيل، بالنيابة عن أميركا، فككت المحور الإيراني، وأعادت تشكيل الشرق الأوسط.
سوريا ولبنان انهارتا، حماس خسرت وجودها وبالتالي أُسقطت غزة كورقة ضغط أبدية.
بهذا أصبحت إسرائيل لاعبًا جيوسياسيًا بين آسيا والغرب، تفرض حضورها كقوة عسكرية تعيد رسم طرق التجارة العالمية.
هذا الانتصار مهّد لواشنطن أن تمسك زمام آسيا: 1- استقرار مع الصين بعد خيبة أملها من إيران.
2- نفوذ جديد في القوقاز عبر السلام الأرمني–الأذري.
3- مدخل مفتوح لحوار مع بوتين، بعدما فقدت موسكو ذراعها الإيرانية وموردها في الطائرات المسيّرة. لكن وسط هذه الانعطافة العالمية، يظل العراق عقدة الحسم.
العراق اليوم هو الذراع المالي الأغنى لإيران.
نفطه ودولاره وميليشياته هي ما يُبقي طهران على قيد الحياة بعد الهزيمة. سقوط إيران بلا سقوط العراق يعني أن المشروع ما زال يتنفس. لذلك، فإن كسر هذه الذراع صار ضرورة استراتيجية، لا خيارًا.
وهنا تظهر الخطوة الأميركية الأوضح: منذ حوالي اربعة أشهر ، حطّ في بغداد وفد من مائة شخصية تمثل 60 شركة أميركية كبرى، ووقّع عقودًا هائلة في الطاقة والبنية التحتية.
التنفيذ مقرر مطلع العام المقبل.
المغزى عميق:
واشنطن قررت أن تعيد احتلال العراق اقتصاديًا عبر الاستثمار، لا بالدبابات. لكنها تعلم أن ذلك مستحيل بوجود الميليشيات الإيرانية. لذلك فإن خطة الإعمار نفسها ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل هي أداة لكسر الهيمنة الإيرانية.
السيناريو المطروح:
– ضربات مركزة ضد قيادات الميليشيات.
– تجفيف منابع تمويل إيران عبر العراق.
– ربط الإعمار بشرط سياسي:
لا أموال ولا مشاريع ما دام الحشد يسيطر.
– استثمار الغضب الشعبي العراقي ضد الفساد والهيمنة.
ويبدو أن ترامب وضع جدولًا زمنيًا ضاغطًا:
إنهاء ملفات الشرق الأوسط خلال هذا العام. ما يعني أن أمام المنطقة أربعة إلى خمسة أشهر فقط لحسم هذه القضايا، والعراق في قلبها. فإذا كُسرت الهيمنة الإيرانية قبل نهاية العام، تبدأ مرحلة الإعمار والانفجار الاقتصادي.
أما إذا بقيت، فلن يكون هناك إعمار ولا عراق جديد. وما يعوّل عليه الشريكان العالميان ترامب ونتنياهو، هو الحنق الشديد من قبل الشعب على العملية السياسية وقادتها الروحانيين من اصحاب العمائم السوداء، ومن فوقهم مرجعهم الأعلى الذي كان بمثابة الغطاء الشرعي لفسادهم.
وهذا هو الزخم الحقيقي لأي نية للتغيير: أن يجد القادة الدوليون الشارع العراقي نفسه متعطشًا للانفجار، لكنه مكبوت بالخوف.
من يتابع منصات التواصل يرى بوضوح أن العراقيين يريدون الخلاص، لكنهم ينتظرون الشرارة الأولى. فإذا ما وجهت ضربة مركزة إلى قادة الميليشيات أو إلى القيادة الدينية التي تحميهم، ستنفلت الجماهير وتملأ الساحات.
وحينها لن تحتاج واشنطن ولا تل أبيب إلى فرض التغيير بالقوة، لأن الشارع نفسه سيتولى المحاسبة والسيطرة.
وللذين يخشون الانفلات الأمني كما حدث عام 2003، أقول: لا اظن ان هذا ستكرر. لماذا؟
لأن الحراك القادم لن يكون فوضى بلا رأس، بل ستكون له إدارية شعبية واعية وعلى أتم الجهوزية والاستعداد، تفرض النظام من الداخل وتضبط المسار.
إنه حراك سيولد بعد الشرارة الأولى التي يطلقها التحالف الأميركي–الإسرائيلي، وعندها لن تعود الميليشيات ولا العمائم قادرة على ابتزاز الشارع أو إعادة إنتاج الفوضى. الخلاصة: إسرائيل غيّرت وجه الصراع الدولي، وكسرت إيران كقوة إقليمية.
أميركا أصبحت لاعبًا عالميًا أقوى مما كانت عليه بفضل الذراع العسكري الإسرائيلي.
والعراق هو الحلقة الحاسمة: إما أن يُكسر فيه النفوذ الإيراني سريعًا ضمن خطة ترامب لحسم الشرق الأوسط، أو يبقى عالقًا خارج مسار التاريخ الجديد. وليس من قبيل الصدفة أن نتنياهو وجّه مؤخرًا خطابًا مباشرًا إلى الشعوب الإيرانية الناقمة على حكم الملالي.
هذه الشعوب تشبه العراقيين إلى حد بعيد: يريدون الخلاص لكنهم مكبوتون بالخوف.
العراقيون حاولوا في تظاهرات 2019، والإيرانيون ثاروا في 2009 و2017 و2019 و2022، لكن القبضة الحديدية أعادتهم إلى الصمت.
لذلك ربما تكون الشرارة القادمة مزدوجة، واحدة في العراق وأخرى في إيران. وحين تنطلق، لن يستطيع لا الملالي ولا الميليشيات أن يوقفوا طوفان الشعوب المنتظرة.