عندما يدفع الفقراء الثمن
-
03/12/2016 01:21:00 م
- |
- آراء و كتاب شباب
بقلم : يسرى حسين
حلمت بائعة الزهور في فيلم ( سيدتي الجميل ببيت جميل يحوطه الدفء والسعادة ،وقفزت بالحلم بعيدا في سماء الخال بعالم مختلف ينقذها من الفقر وإدمان والداها على الخمور.
اليزا دوليتل تحلم ،مما يعني استعدادها للخروج من نفق مظلم لأفق حياة تطوف بخيالها.
هذا الحلم ،جعلها تلتقط عالم اللغويات ،الذي داعب طموحها في الأنتقال من وضاعة الفقر لجمال الكون ،والوسيلة هي العلم والتثقيف ،وليس الإندماج في فساد وانحلال لتحقيق أمنية تطوف بالخيال.
طبيعة المخلص لعبت دور المنقذ من الفقر والأضمحلال لأفق العلم والفن والرقي ،وقد رفضت الفتاة لعروض سابقة من منحرفين ومدمرين اجتماعيا ،وعندما طرق عالم اللغويات الباب ،فتحت له اذ كانت تحلم وتغني لمستقبل مختلف.
لوح لها العالم ،بتعليمها لغة السادة حتى تترك عالم العبيد والأستغلال والمهانة ،وتعلقت بهذا العرض اذ كانت تنتظره وتحلم به.
إحسان شحاته في رواية نجيب محفوظ ( القاهرة الجديدة) ظروفها أفضل من اليزا دوليتل ،لكن حلمها أفل طموحا وهو الخروج من الفقر ،مها كان الثمن ،اذ لم تحد بيئة تغذي الحلم لقمع إجتماعي وقهر طبيعي ،يسجن الأحلام ،وحبيبها اليساري يحلم بتحرير الوطن من الإستعمار والسراي ،وفشل في حمايتها من السقوط في دعارة مقنعة منحطة وقعت فيها مع الجامعي محجوب عبد الدايم.
عالم اللغويات الإرستقراطي ،لديه الوقت والمال والطموح لرفع طبقات فقيرة من سفح الفقر والمهانة ،لمرتبة إنسانية لأهتمام بقيم الجمال والبحث عنها داخل النفوس التي تعيش داخل الحصار.
في الراوية المصرية اصر الباشا الغني لأفتراس فتاة فقيرة وتحويلها لعاهرة ،مع زوجها الجامعي الشاب تعبيرا عن عدم إنسانية طبقات جاهلة شرسة رغم تمتعها بالمال والنفوذ.
نجيب محفوظ يدين الطبقة الثرية المصرية التي تميزت بأنانية وتفاهة وانحطاط ،فالباشا الأرستقراطي مثل القواد ( فرج) في ( زقاق المدق) ،الذي استثمر طموح حميدة وتمردها في دفعها لإحتراف الدعارة.
اليزا دوليتل محظوظة بلقاء عالم لغويات ،يعتقد ان العلم يذيب الطبقات ،والثقافة قادرة على تحويل بائعة زهور ،لأميرة تلهب الخيال بلغة راقية قبل ملامح الجمال.
( زقاق المدق) كشفت حجم الإغواء في بلد مستعمر ضعيف ،تنزلق فيه النساء الطموحات لدعارة ،اذ كل الأبواب مغلقة وحتى شباب الحارة لم يكن أمامهم للعمل سوى معسكرات الإنجليز .
في ( القاهرة الجديدة) تعلم الشباب في الجامعة ،لكن قوتهم ذهبت اما للإخوان أو الإحزاب اليسارية ،وظلت إحسان شحاته غير قادرة على حماية نفسها من سقوط مروع ،مع محجوب عبد الدايم.
علي طه ، فشل في مساعدة إحسان شحاته ،مما سمح بسقوطها ،لأن الفقراء في بلد مستعمر وضعيف يدفعون الثمن.
( سيدتي الجميلة) الفيلم ،ستلهم من مسرحية لبرنارد شو ، تمنح الطبقة المتعلمة دورا في الإنقاذ الإجتماعي ،نتيجة وعيها بقيمة الإنسان وتجاوزه لموانع طبقية تعرقل النمو الطبيعي.
لقد تعلمت أليزا النطق السليم ،وعندما حضرت حفل لملك البلاد اعتقد خبير مدرب انها سليلة أمراء ،مع أن أبيها يجمع القمامة ،اذ استطاع التعليم ردم الهوة السحيقة وهذا ما فعلته دول تحررت من قيود التخلف بفتح أبواب العلم ،فتحررت فتيات وشباب من ضغوط الفقر اللعين الذي يدفع نحو الانحلال والسقوط.
احتاجت أليزا لعالم مثقف يأخذ بطموحها لطريق العلم والتمدن ،بينما حميدة المصرية التقطها قواد ،فدفع بها للدعارة واحتضان الجنود الإنجليز.
مصير إحسان شحاته ابشع ،اذ لم تستطع الطبقة المتعلمة في الجامعات انقاذها ،بل تورطت هي ايضا في المأساة ،لأن محجوب عبد الدايم الفقير في كل شيء استسلم لمجتمع الأثرياء وشغل منصب القواد لزوجته إحسان شحاته.
إدانة كاملة لليمين واليسار ،في شخص إحسان التي يمكن أن تكون لصورة لوطن ضعيف مضطرب الأحوال والرؤى وغير قادر على إنقاذ فتاة من قبضة الجبابرة الأشقياء.
كأن نجيب محفوظ يرد على برنارد شو ،بأن الأصلاح يحتاج لمجتمع ناضج وفيه نخبة متماسكة قوية قادرة على مساعدة الضعفاء وتقديم يد العون ،ليس بتبرعات ،وإنما بتعليم وتثقيف ،كما حاول سلامة موسى وطه حسبن ، لكن في عهود التخلف وتكوين ثروات من ضعف المجتمع والمرضى ،فأن الأصلاح غير ممكن لأنانية الطبقات المهيمنة التي لا تفكر سوى في متعتها .
في فيلم ( سحر البرجوازية الخفي) للويس بانويل يقدم نهم أثرياء شبه حيواني دون وعي سوى رغبة جامحة في استهلاك دون حدود ،يكشف عن طبقات فاسدة تمزق مجتمعات بتلك الإنانية المفرطة
،وأدان محفوظ هذا النمط في ( القاهرة الجديدة)في إنذار مبكّر لم يلتفت اليه المجتمع ،لذلك استمرت الفوضى والخطاب المتطرف من الجميع دون إدراك لأهمية التعليم الحق والصناعة اذ أنفقنا على طبع كتب الفقه أضعاف ما ننفقه على التعليم الذي يزرع حقائق ،ولا يروج لأوهام.