بقلم : أحمد عثمان
عندما أن أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بتفسيم الأرض الفلسطينية إلى دوليتن – للعرب اليهود – في نوفمير 1947, بدأت مرحلة جديدة من التاريخ في الشرق الأوسط من الصراع بين العرب وإسرائيل. وازدادت حدة هذا الصراع عندما وصل الرئيس جمال عبد الناصر إلى الحكم في 1952, حيث أصبح الهدف الرئيسي للدولة المصرية هو تسخير قدراتها لتحرير الأراضي الفلسطينية, والقضاء على دولة إسرائيل. وسرعان ما تحول الصراع بين العرب وإسرائيل, إلى صراع بينهم وبين القوى العالمية التي تدعم إسرائيل, وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 1956 أنتج الأمريكي سيسيل دي ميل فيما – تم تصويره في مصر – باسم "الوصايا العشر" عن قصة خروج بني إسرائيل من مصر, وكيف عذب فرعون أتباع موسى وسخرهم لبناء مخازن الغلال في مدينته. فذهبت للقاء الأستاذ توفيق الحكيم في مكتبه بالمجلس الأعلى للآداب والفنون في الزمالك, وسألته عن صحة قصة الفيلم التي اعتمد عليها دي ميل في روايته. قال لي الحكيم: إقرأ سفر الخروج في الكتاب المقدس, وسوف ترى أن العبرانيين هم الذين خدعوا المصريين وسرقوا ذهبهم, وأخذوه معهم عند الخروج.
ذهبت إلى مكتبة الكتاب المقدس بالفجالة واشتريت نسخة من الكتاب, واعتمادا على قصة الخروج التوراتية كتبت مسرحية بعنوان "أين الجنة" نشرت في كتاب, قلت فيه إن بني إسرائيل خرجوا من الجنة عندما تركوا الوطن الذي استقبلهم, وسمح لهم بدخوله آمنين. لكنني – بعد نشر الكتاب – لمت نفسي على ما جاء به, فأنا مصري أعيش في عصر أخرجت فيه معاول الآثار حقائق تاريخية عن حياة المصريين, فكيف أعتمد على قصة التوراة وحدها, ولا أبحث عن التاريخ.
في ذلك الوقت كنت أعمل صحفيا في دار أخبار اليوم, ورشحني توفيق الحكيم ويحى حقي والدكتور الناقد محمد مندور للحصول على منحة تفرغ, حتى أتمكن من عمل دراسة عن الأصل المصري لقصة الخروج من مصادر التاريخ, ووافق الوزير عبد القادر حاتم على الطلب.
بحثت في المكتبات فلم أجد كتابا عربيا واحدا يتحدث عن التاريخ التوراتي, فذهبت إلى المتحف المصري, حيث شاهدت تماثيل تحمل أسماءا وتواريخ, ولكنني لم أجد معلومات. فدخلت مكتبة المتحف بعد أن سمحت لي السيدة المسئولة بالدخول, فوجدت أكواما من الكتب على الأرض كتبت بكل اللغات, لكنني لم أجد كتابا واحدا يجيب على سؤالي عن موسى وفرعون.
عندئذ قررت السفر إلى بريطانيا أملا في العثور هناك على من يدلني على ما أبحث عنه. ولما كان علي صبري – رئيس اوزراء – قد منع المصريين من السفر اإلى الخارج إلا بموافقة الوزير المختص, فقد ذهبت للقاء الأستاذ حسنين هيكل في مكتبه بالأهرام – وكان عندئذ في باب اللوق – وكنت قد إلتقيت به في منزل إحسان عبد القدوس.
كان هيكل في إجتماع, وعدما فرغ اسطحبني معه في سيارته وهو في طريقه لزيارة مصطفى أمين, وسألني ماذا تريد؟ قلت له "موافقة الدكتور حاتم على سفري". قال اترك لي الطلب مع السكرتيرة, واكتب فيه عنوانك وتليفونك, ففعلت.
وبعد حوالي أسبوع اتصل بي سعيد عثمان – مدير مكتب حاتم – وطلب مني الحضور إلى مكتبه في ماسبيرو لإستلام الماوفقة, لكنني - لسوء الحظ - قرأت في الصحف بعد خروجي من المبنى, قرارا من علي صبري يتطلب ضرورة موافقة رئيس الوزراء على سفر المواطنين.
كنت أعرف أن علاقة هيكل بعلي صبري لم تكن على أحسن حال, ولم أرغب في إحراج الرجل, فعدت إلى منزلي مكسور الجناح فاقد الأمل. لكن القدر الذي أغلق الباب أمامي, هو نفسه إلي فتحه من جديد. فقد دعاني صديق إلى سهره مع أحد رجال الأعمال, ولما وجدني مكتئبا وكأس البيرة في يدي, سألني عن السبب. قصصت عليه قصتي وحلمي بالسفر, فقال الرجل الكريم إن في مقدوره مساعدتي. كيف؟ قال إنه شريك في شركة كويتية وفي استطاعته إعطائي عقد للعمل في الكويت, شرط ألا أطالبه بالوظيفة, وطبعا وافقت.
وكان لي جار صديق ضابطا في الأمن العام, استخدج التصريع في بضع ساعات, فسافرت إلى الكويت ومنها إلى لندن. وكان أو ما فعلت عند وصولي هو محاولة تحسين معرفتي باالغة الإنجليزية, حتى أتمكن من القاءة والكلام. لكن هذا استغرق ثلاثة أشهر بأكملها, وهي كل المدة الممنوحة لي في للبقاء في بريطانيا, فماذا أفعل؟
ذهبت إلى السفارة المصرية وقابلت الدكتور أحمد أنيس, المستشار الإعلامي, وشرحت له موقفي, فقرر تعييني في مكتبه لترجمة ما ينشر فيها عن مصر, ومقابل هذا أعطاني عشرين جنيها استرلينيا في الأسبوع, وطلب لي الإقامة تابعا لمكتبه بالسفارة. وعندما قرر الرئيس عبد الناصر قطع العلاقات مع بريطانيا بعد بضعة شهور, استمرت إقامتي بها تابعا للسفارة.
بعد أصبحت عضوا في "جمعية الكشوفات المصرية" أو “Egypt Exploration Society” التي كان أعضاؤها من علماء المصريات العاملين في مصر, تحادثت مع الكثيرين منهم. وعندما سألتهم عن دليل تاريخي يؤكد ما جاء في قصة التوراة عن خروج بني إسرائي من مصر, قالوا إن التوراة تتحدث عن البيئة والجو العام للحياة في مصر الفرعونية, لكنهم لم يعثروا على أي دليل يتعلق بوجود بني إسرائيل في مصر أو خروجهم منها.
عندئذ قررت أن أبدا دراسة تاريخ المصريين بنفسي بحثا عن الأصل التاريخي لقصة التوراة.