الشرق تريبيون - ماسبيرو

• .
  عشقت العدس والعسل الأسود من طعام المصريين.. وأوقفت حياتها على رعاية اليتامى والمساكين

فى مقام سيدتنا فاطمة النبوية لابد أن تلفت نظرك تلك اللوحة الزجاجية الضخمة المعلقة على جدرانه، وفيها قصيدة عصماء فى محبة صاحبة المقام كتبها مولانا الشيخ صلاح الدين القوصى، شيخ "الأشراف المهدية" وأحد أعلام التصوف المعاصر والشاعر الصوفى المجيد ، ويبدأها بمخاطبة السيدة فاطمة النبوية بتلك المحبة الآسرة:

بنت الحسين أتيت ألثم كل شبر فى الرحاب/ وأمرغ الخدين والوجه ورأسى فى التراب/ وأقُبل الأركان والستر وأطرق كل باب/ وأظل فى نجواى أهمس فى غدوى والإياب/ عزى بذلى فى رحابكم وفخرى بانتساب/ علّى أفوز بنظرة فيها قبول واحتساب/ يا بنت سبط المصطفى زين الفتوة والشباب/ أم اليتامى من حياة أنشبت ظفرا وناب/ لم يلتمس أعتابكم ورحابكم ضيف وخاب.

ويمكننا أن نعتبر هذه القصيدة البديعة هى تلخيص بليغ لعلاقة المصريين بمقامات سيدات بيت النبوة فى مصر، وبينهن بالطبع السيدة فاطمة النبوية بنت الإمام الحسين، ولدى المصريين عشق خاص ومكانة متفردة للحسين ولكل من ينتسب إليه، فما بالك بابنته التى منحها اسم جدتها فاطمة الزهراء بنت النبى، وكانت أكثر حفيداتها شبها بها.

(1)

بعد وفاة زوجها الثانى عبدالله بن عمرو، حفيد عثمان بن عفان، قررت السيدة فاطمة النبوية- وكانت فى العقد الخامس من عمرها- أن تتفرغ للعبادة والذكر ورعاية أولادها واليتيمات السبع من بنات شهداء كربلاء الذين تتكفل بهم، لكنها فوجئت بعبد الرحمن بن الضحاك الفهرى والى المدينة المنورة يطلبها للزواج ويلح فى طلبه، وكأن السلطة والنفوذ والثراء لا تكفيه فأراد أن يتوجهم بشرف النسب من الحسين والزواج من حفيدة الزهراء وعلي، ورفضت فاطمة الطلب بل وتعجبت منه، ولكن الوالى راح يضغط ويلح بل ويهددها بإيذاء ابنها الأكبر، وأن يلفق له تهمة شرب الخمر ويقيم عليه الحد!

ولم تجد فاطمة سوى أن تشكوه إلى الخليفة الأموى يزيد بن عبد الملك، وكان من العارفين بمكانة فاطمة وفضلها، فأصدر قرارا بعزل والى المدينة واستدعاه إلى دمشق عاصمة الخلافة، وأمر بتجريسه عن فعلته فألبسوه جبة من الصوف وأركبوه على حمار طاف به بين الناس!

وبعد رحيل الزوج وانشغال الأبناء، وغياب الأحبة مــــن آل البيت الذين كان الكثير منهم قد اتجه إلى مصر وطاب لهم المقام فيها، قررت السيدة فاطمة النبوية السير على دربهم والمجىء إلى مصر، ولم تأت بمفردها فكان بصحبتها ابنتها رقية ويتيمات كربلاء السبعة، فلم تشأ أن تتركهم لمصير مجهول فى المدينة، وهم الذين عاشوا فى كنفها ولا يعرفون سندا لهم فى الدنيا غيرها.

وخرج والى مصر لاستقبالها والحفاوة بها وإكرام وفادتها، وسكنت دارا فى منطقة الدرب الأحمر، وهى الدار التى صارت الآن مرقدها ومسجدها.. وكانت المنطقة وقتها تعرف باسمها القديم: الحطّابة.

وتوافد عليها المحبون، طلبا للعلم والبركة وقضاء الحاجات، وخصصت يوم الثلاثاء لإلقاء دروسها، وكانت عالمة ومحدثة وفقيهة ومن رواة الحديث النبوى، ونقل علماء الحديث واعتبروها مصدرا معتبرا، فقد روت ما سمعته عن أبيها الإمام الحسين وعمتها السيدة زينب وحبر الأمة عبدالله بن عباس وأم المؤمنين السيدة عائشة. ولا يعرف كثيرون أن السيدة فاطمة النبوية تربطها صلة قرابة بالسيدة عائشة، فهى خالة أمها "أم إسحق " بنت طلحة، إذ كانت جدتها لأمها هى أم كلثوم بنت أبى بكر الصديق شقيقة عائشة. وأصبح بيتها مقصدا للمساكين وأصحاب الحاجة، فلم تكن ترد سائلا ولا طالبا، واشتهرت بحبها لليتامى، وتكاثر عدد الذين ترعاهم وتكفلهم، فبجانب السبع اللاتى قدمن معها من المدينة المنورة وجدت نفسها مسئولة عن آخرين، فأنشأت أول مؤسسة لرعاية الأيتام، كانت تتكفل بإقامتهم وإطعامهم وكسوتهم وتعليمهم وإكسابهم حرفا يتعيشون منها بعد ذلك.. ومن هنا يجىء اللقب الذى اشتهرت به ولصق باسمها: أم اليتامى.

والرأى الراجح أن السيدة فاطمة النبوية عاشت سنواتها الأخيرة فى مصر ودفنت بها، لكن هناك خلافا حول السنة التى انتقلت فيها إلى جوار ربها، والرأى الغالب بين من أرّخوا لسيرتها أنها ماتت فى العام 110 هجرية وكانت فى السبعين من عمرها، وهناك من يرى – مثل ابن حجر فى كتابه "فى تاريخ دمشق" – أنها عاشت حتى جاوزت المائة عام وماتت فى خلافة هشام بن عبد الملك.

والراجح كذلك أنها دُفنت فى البيت نفسه الذى عاشت فيها بمنطقة الدرب الأحمر ، والذى هومسجدها الآن، وبجوارها - فيما بعد- دُفن اليتامى الذين ربتهم وتكفلت بهم، وكانت مراقدهم على يمين الداخل إلى مسجدها، إلا أن التجديدات والتوسيعات والإنشاءات التى طرأت على المكان قد طمست معالمها. ومن المؤرخين من ذهب إلى أن مقام السيدة فاطمة النبوية موجود فى منطقة درب سعادة، وليس فى المسجد الذى يحمل اسمها، وربما يكون ابن بطوطة الرحالة الشهير هومن تسبب فى هذا الالتباس، ففى مشاهداته فى مصر وعندما زار منطقة درب سعادة ذكر أن من أبرز معالمها مسجد السيدة صفية.. "وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين". لكن أصح الآراء هوما ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن الأجهوري، الفقيه المالكى والمؤرخ المدقق (المتوفى 1198 هجرية)، فى كتابه القيّم "مشارق الأنوار فى آل البيت الأطهار"، وفيه يحسم هذا الخلاف بيقين وشواهد: "السيدة فاطمة النبوية بنت الحسين السبط مدفونة خلف الدرب الأحمر، فى زقاق يُعرف بزقاق فاطمة النبوية، فى مسجد جليل ومقامها عظيم، وعليه من المهابة والجلال والوقار ما يسر قلوب الناظرين، ولنا فيها أرجوزة عظيمة (قصيدة) ولنا بها زيارات، وما اشتهر من أن فاطمة النبوية بدرب سعادة غير صحيح، وعلى تقدير صحته يحتمل أن يكون معبدها، ويحتمل أن تكون فاطمة أخرى من بيت النبوة.. ونرى ذلك هوأقرب الأقوال وأصدقها فى كونها توفيت بمصر، ومن زار مقامها من أهل المحبة والأدب وجد الأنوار ظاهرة بما لا يدع مجالا للشك".

وهوالرأى نفسه الذى أكده المتصوف الشهير والقطب الربانى الشيخ عبد الوهاب الشعرانى، نقلا عن شيخه "على الخواص"، بأن السيدة فاطمة النبوية مدفونة بمسجدها بالدرب الأحمر.." ومقامها عظيم عليه من المهابة والجلال ما يسر قلوب الناظرين ويريح نفوس الزائرين".

(2)

بُنى مسجد فاطمة النبوية فى نفس مكان بيتها وحيث رقد جثمانها الطاهر، وكان البناء فى البداية متواضعا إلى أن كان البناء الأول فى زمن الحاكم بأمر الله ثم جدده القاضى شرف الدين الصغير قومندان الجيش المصرى، وكان التجديد الثالث عام 1176 هجرية برعاية وكفالة الأمير عبد الرحمن كتخدا وكان من أمراء المماليك فى زمن على بك الكبير.

أما هذا البناء الحديث الذى عليه المسجد الآن فيرجع إلى زمن الخديو عباس حلمى، وهوما يؤكد عليه على باشا مبارك فى كتابه "الخطط الجديدة"، ويذكر تفاصيل دقيقة ومهمة عن البناء تستحق أن ننقلها بنصها: "جامع السيدة فاطمة النبوية (رضى الله عنها)، هذا المسجد على شمال الذاهب إلى القلعة فى داخل عطفة تعرف بها، أنشأه المرحوم عباس باشا إنشاء حسنا، وجعل به ستة أعمدة من الرخام، وفرشه بالحجر المنحوت، وجعل فيه منبرا من الخشب ودكة، وأقيمت فيه الجمعة والجماعات، وعمل له ميضأة وحنفية من الرخام فى وسط محل متسع مفروش بالحجر المنحوت، يفصله من طرقة المراحيض درابزين من خشب، وله منارة وبابان، أحدهما إلى الحنفية والميضأة والآخر ضريح السيدة، وهوضريح جليل ذووضع جميل، واقع عن يسار القبلة، عليه قبة مرتفعة ومقصورة من نحاس أصفر، وخارج القبة رحبة صغيرة عليها درابزين من الخشب يجلس فيه الخدمة".

ثم يشير على مبارك إلى تجديد لحق بالمسجد فى زمنه ويقول: وفى بعض الوثائق أن الأمير سليمان أفندى أنشأ وعمّر زاوية وضريح السيدة فاطمة النبوية وزرع النوى (النخل) داخل الدرب المعروف بالنبوية على يسرة السالك للتبانة ودرب السباع، وصرف على ذلك مبلغا قدره ستون ألفا ونصف من الفضة العددية، ولهذا المسجد أوقاف جارية عليه تحت نظر ديوان الأوقاف، ويُعمل لها – أى للسيدة فاطمة – حضرة كل ليلة ثلاثاء، ومولد نحوعشرة أيام، ولها زيارات كثيرة ونذور".

أما الذى لم يذكره على باشا مبارك فهوأن اختيار الثلاثاء موعدا لحضرة السيدة فاطمة النبوية، فلأنه اليوم الذى كانت تخصصه فى حياتها لدرسها الأسبوعى فى الفقه والحديث.. وأنها كانت توزع على ضيوفها العسل الأسود والعدس، أحب الأكلات المصرية إلى قلبها ونفسها، ولذلك فإن المحبين فى أيام مولدها يُطعمون العسل والعدس بالذات، إكراما لطعام بنت الحسين المفضل.

وتعرض المسجد لتصدعات بعد زلزال 1992، مما استلزم تجديده وتوسعته، فأضيفت مساحات جديدة أوصلت مساحته إلى 2450 مترا مربعا وبات يستوعب أكثر من خمسة آلاف مصل، وجرى افتتاحه فى العام 2003.

وكأن والدها الإمام الحسين أراد أن يبارك لها مسجدها بعد تطويره، فعندما جرت التجديدات فى مسجد الحسين وبنيت مقصورته الفضية الجديدة تقرر نقل المقصورة القديمة إلى مسجد فاطمة النبوية.. وكأنها هدية الإمام إلى ابنته العزيزة التى تحمل اسم أمه الغالية فاطمة بنت النبى.

(3)

 أحبت فاطمة النبوية مصر وأهلها.. فهى التى اختارتها وطنا وملاذا ومرقدا، وفتحت بيتها للمريدين والمحبين، ومنحت قلبها لليتامى والمساكين، ولم تبخل على أهل مصر بعلم ولا مال ولا دعاء.فأحبها المصريون وعشقوها، وقصدوا بيتها ومقامها، وحملوها فى قلوبهم مثلما حملوا أقمار آل البيت الذين أناروا سماءهم وباركوا أرضهم. وترجموا عشقهم لبنت الإمام فى احتفال دائم وطقس يومى من المحبة فى مقامها، وفى كتابات تفيض وجدا، نثرا وشعرا،  فهى عندهم "سيدة أهل اليقين، ومانحة لواء العز والسؤدد للقاصدين، وباب تفريج الكروب للمستغيثين، وهى الطاهرة التقية، السيدة النبوية، بنت الإمام وشقيقة سكينة وأخت على زين العابدين".

وهى التى خاطبها شاعرهم:

يا بنت مولانا أمير الروح والسر المجاب

 صلى الإله عليكم والخلق كله سراب

وأعز قدركم وشرفكم بعلّوى الخطاب

يا نور نور الروح والحنان والعطف المذاب

والله ما قد جئتكم أرجو جزاء أوثواب

فأنا القتيل بحبكم من غير سهم أونشاب

وأنا الأسير ببابكم قد لذّ لى أسرى وطاب

أحبب به رق وأكرم بالقتيل وبالمصاب

إنى وحق أبيك والجد المشرف والصحاب

والآل والنسل الشريف وكل من طاف الرحاب

لوتاب كل العاشقين عن الهوى مالى متاب.