سلسلة مقالات - الموسيقى العربية في إسرائيل :من الغيتو الى الفضاء العام
-
23/09/2020 04:34:00 م
- |
- الفــن
كتبت : ليندا منوحين عبدالعزيز
صيف عام 1971 اصطحبتني خالتي الى النادي الرياضي في تل ابيب الذي كان يعج بالإسرائيليين ايام السبت. كان مشهدا مشابها لمسبح الشعب البغدادي في الستينيات. كان البعض يزاول الرياضة ومنهم من يعوم في بركة السباحة ومنهم من انتظم في حلقات للحديث والاسترخاء. جلست على كرسي مريح وفتحت راديو الترنزيستور الصغير لاستمع الى اغنية لام كثلوم بعد نشرة الاخبار من دار الإذاعة الإسرائيلية. سارعت خالتي لتطلب مني ان اخفض الصوت. كانت لي مفاجئة صادمة. فقد كنت بضعة اشهر في اسرائيل بعد فراري من جحيم العراق في نهاية 1970 . هذه المحطة المفاجئة يسميها الشاعر الإسرائيلي الموهوب ،عراقي الأصل، ايلي الياهو، واحدة من "محطات الخجل" في قصيدة يصف فيها سلوك والده الذي كان يسارع إلى تحويل موجة الراديو من العربية إلى العبرية بعد خروجه من كاراج السيارات الخاص إلى الطريق العام، خشية أن يسمع أحد المارة الأغاني العربية التي يشغف بها.
اذا كان النجاح هو محصلة اجتهادات صغيرة تتراكم يوماً بعد يوم فإن الموسقى العربية سطرت نجاحا باهرا في العقدين الأخيرين. إسرائيل عام 2020 هي محطة معاصرة تتناغم فيها انواع الموسيقى من كل انحاء العالم اخترقت فيها الموسقى العربية المساحة المغلقة بوجه ما هو ليس بغربي او روسي في فضاء الموسيقى، بتاثير افواج المهاجرين. وهذه هي قصة كفاح طغى فيها ذوق الجمهور على ميول منتجي البرامج الإذاعية الذين حاصروا الاغنية العربية، باعتبارها امتدادا للغة العدو. لكن اللغة العربية كانت اللغة المحكية لدى 850 الف يهودي، قدموا من مختلف انحاء الدول العربية بلهجات متباينة، لكن الذوق العام كان متشابها الى حد ما، عندما كان المشهد الغنائي يعج باسماء اساطير الشرق مثل ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش في مصر وسليمة مراد في العراق وصباح في لبنان وغيرها. غير ان النزاع العربي الإسرائيلي حمل الغناء الرومانسي عبئا سياسيا جعله موضع احتكاك بين المنحدرين من الدول العربية والقادمين من اوربا الشرقية والغربية . هكذا وجد يهود الدول الشرقية ثقافتهم العربية وموسيقاهم رهينة في موطنهم الجديد. فما كان منهم الا احتضان الموسيقى اليونانية بنغمها الحزين لتكون بديلا "شرعيا" للموسيقى العربية التي كان الاعتقاد السائد انها موسيقى بدائية مقارنة مع بيتهوفن واقرانه، وفقا لما يرويه شمعون برناس الخبير في الموسيقى اليونانية، لدى تحليله سبب نجاح هذه الموسيقى في إسرائيل.
يقول ايلي جرينفيلد المستشار الفني للمؤسسات الموسيقية والفنانين في إسرائيل " ان الانطلاقة الحقيقية للموسيقى العربية بدأت مع حضور سافو Sapho الفرنسية المغربية الى اسرائيل عام 1988 حيث قدمت عروضا موسيقية في "هيكل الثقافة "، اكبر قاعات تل ابيب المهيبة ،غنت فيها لكوكب الشرق ام كثلوم". هكذا حطت الموسيقى العربية في قلب تل ابيب النابض وليس كما جرت العادة في حانات ومقاهي جانبية. ومن مطلع العام 1990 تشكلت العديد من الفرق الموسيقية التي تقدم الموسيقى العربية فيما تأثرت غيرها من الفرق بهذه الموسيقى واكتسبت معجبين في العالم والدول العربية على حد سواء.
وفي نظري ان اسرائيل، مع مر السنين، تخلصت شيئا فشيئا من عقدة النزاع العربي الإسرائيلي سيما بعد توقيع التفاقية السلام مع مصر، اذ كان النزاع عائقا نفسيا بوجه تقبل موسيقى العدو. وبعد عامين من التوقيع على معاهدة السلام مع الأردن، اصدرت سريت حداد، من اشهر المغنيين في اسرائيل والاكثر تاثيرا على المشهد الغنائي في 1997 البومها "كرمل" مع اغاني عربية تم تسجيل معظمها في الاردن. كما حلت ضيفة على الاردن، حيث غنت من اغانيها لعمالقة الطرب العربي على الرغم من انها تفتقر الى جذور عربية.
اتذكر في مطلع الالفين عندما شكلتُ جمعية لتطوير الموسيقى العراقية واطلقت عرضا بعنوان "الملتقى في مقهى بغداد" استحضرت خلاله مساهمات الاخوين صالح وداود الكويتي في تطوير الموسيقى العراقية في النصف الاول من القرن العشرين، علما ان داود كان جد الموسيقار الموهوب دودو تاسا. دعوت الأخير ليكون ضيفا الى جانبي في استوديو الاذاعة الإسرائيلية "ريشيت بيت" للحديث عن مكانة الاخوين في العراق قبل الهجرة الى اسرائيل. وخلال البث المباشر تحدثت كيف ان بث الموسيقى العراقية في مطلع عهدها في الثلاثينيات كان من قصر الزهور، الذي سكنه الملك فيصل الاول كما ان الملك غازي اهدى صالح الكويتي ساعة ذهبية. فما كان من تاسا الا التعقيب بانه كان يعتقد ان هذه الرواية هي من نسج خيال القادمين من الدول العربية!
يتبع .................