الأربعاء, مايو 8, 2024 14:49:27 لندن

المحنة .. والمنحة

  • 15/04/2020 07:01:00 ص
  • |
  • رئيس التحرير


بقلم الاستاذة : الفة السلامى 

ماذا فعلت أزمة كورونا بالعالم ؟! انظروا من حولكم وتأملوا.. فجأة باريس تفقد عشاقها و رومانسيتها ؛ برج ايفيل والشانزليزيه يذرفان دموع الشوق على ثمانين مليونا من عشاقهما السائحين الذين سيهجرون محبوبتهم فرنسا هذا العام "بجنها وملائكتها"!

شاهدوا ديزني لاند بين عشية وضحاها قافرة هجرها السحر والساحر.. ولومبارديا العاشقة الجريحة أضحت بلا قلب يتخاطف فيها الإيطاليون أجهزة التنفس الاصطناعي وكأنها "بيتزا مارجريتا" أو"باستا ألفريدو". أما أسبانيا المنكسرة فقد هجرت "ولادة" حبيبها "ابن زيدون" الذي هام في الشوارع ولسان حاله يقول:
 "أضحى التنائي بديلا من تدانينا ///وناب عن طيب لقيانا تجافينا "

ولم تعد نيويورك تجري على قدم وساق، بل اللاهثون الذين أعياهم كورونا أكثر من الواقفين. ولم يعد الجدار الصيني حصنًا بل طائر منبوذ يحلق من مدينة أوهايو العتيقة يخترق حدود العالم وينقل عدوى تفوق في سرعة انتشارها سرعة الضوء، وتلقن الإنسان درسًا باهظ التكلفة: فيروس يبدو تافها بدون جيوش ولا أسلحة قادراعلى الفتك بالملايين دون قدرة دول عظمى على إيقافه. فماذا يساوي ما تعرفه أيها الإنسان المتكبر المتجبر أمام ما لم تعرفه؟ ..ألم يحن لك أن تتواضع..لم تعد تساوي شيئا بغرورك.. لقد سجنك داخل نفسك ، حرمك من رغباتك ونزواتك..حتى عباداتك ما عادت طقوسا جماعية؛ أجراس الفاتيكان تبكي، والحرم المكي يسكنه الحمام يحوم حول البيت بلا مصلّين. أصبحت العزلة الشخصية منتهى الصحة النفسية، والأحضان والقبلات تحولت فجأة لأسلحة فتاكة، وأصبح هجرالأهل والأحباب فعل حب!

سبحان مغير الأحوال يا ابن آدم : تجري جري الوحوش..وفجأة سلطانك ومالك وجاهك بلا قيمة ولا يمكنك حتى من الحصول على أنبوبة أوكسجين أوجهازتنفس اصطناعي، حتى سرير رث في مشفى عام تقاتل حاليا من أجل الحصول على حق الوصول إليه، بعد أن أصبح سؤال "من الأبقى والأصلح" المعيار الذي يحكم عليك بالموت الإجباري.. لأن الأبقى والأصلح هم فقط الأكثر شبابًا! 

هذا الكورونا الحكيم اللئيم يكتب فصلا جديدا من فصول تراجيديا الواقع لا فرق بين دولة "عظمى" متقدمة وأخرى "صغرى" متخلفة .. هدم كل الفوارق واختار ضحاياه من كل اتجاه ولون وجنس وملة وساوى بين الرؤوس فلم يفرق بين غني أوفقيرأو وزيرأو غفير..فنان أو رياضي بعضلات..ست البيت أو خادمة البيت..صاحب المصنع أو عامل في المصنع: الجميع يعيش الألم ويَختبر الذعر وتقهره الفواجع..لعله يتعلم الحكمة. إنه فيروس فيلسوف يكرس معنى جديدا وهو "عدالة المأساة"..التي لم تخبرنا عنها الجامعات والكتب شيئا في علوم الأرض بل تعلمنا ربما ما يناقضها وهوعدالة الفرصة..لكن لاسبيل إلى فرصة أواختيار مع كورونا لأن المأساة واحدة بلا بطل، وكأنه لبس رداء "روبن هود" ليذكر "كورونات البشر" - وما أكثرظلمهم وحيفهم وتسلطهم- بحقيقة طالما غابت عنهم وهي أن الناس سواسية لا فرق بين من يملك كروت الائتمان ويجلس في مقاعد البرلمان ويسافر على الدرجة الأولى في الطيران وبين "الغلبان والجيعان والفقران"..كلهم أمام كورونا بدون حظوظ ولاحول ولاقوة لهم.. لعلهم يفهمون الدرس!
دول عظمى كانت تعلم أخرى "الأدب" أصبحت تتصرف كالعصابات تسمح بالسرقة والقرصنة وتبرر الاستيلاء على ملك الخير طمعا في كمامات وأجهزة تنفس لإنقاذ مرضاها.. سياسات واسترتيجيات تتغير في لمح البصر بعد أن تصدعت رؤوسنا بسماعها لعقود طويلة..الولايات المتحدة الأمريكية صرعها الفيروس فأعلنت الطوارىء وهي تستغيث تبحث عن ملائكة الرحمة؛ وبين ليلة وضحاها فتحت باب الهجرة للأطباء والممرضين بعد أن كانت قد أوصدت حدودها ومنعت عنهم تأشيراتها.

الاتحاد الأوروبي الذي ظل أكثر من نصف قرن يبني وحدته ويرسخ تكامله يظهر منقسما وانتهازيا كما لم يظهر من قبل. وفي المقابل، الحرب فجأة توقفت في اليمن، والسوريون يلتقطون أنفاسهم بشرب "استكانة" شاي بالنعناع.. ويظنون أن كورونا مبعوث السماء ليزيح عنهم "دواعش" كثر. وسكت السلاح في طرابلس عندما تحدث كورونا فلا عجلة في طمع للسيطرة على بترول ليبيا بعد أن أصبح البرميل أرخص من بندقية ..لعلهم يفهمون الدرس!
وباستثناء الإنسان، يواصل العالم حياته بشكل أنقى وأجمل، يضع البشر فقط في أقفاص بينما الطبيعة تلتقط أنفاس الحرية. تراجعت موازنات بالمليارات كانت غالبها ديونا تستلفها دول فقيرة لاستيراد النفط، لتعيد حسابات كانت تبدو مستحيلة، دول نفطية تصول وتجول وفجأة لم تعد لها كلمة، ودول أخرى فقيرة من النفط جاءتها منحة من كورونا لتطور تعليمها وتلحق بركب التكنولوجيا وتصلح منشآتها الصحية لربما يسفيد منها تلاميذ كانوا محرومين من تعليم جيد ومرضى كانوا غير قادرين على كلفة علاج ودواء في القطاع الخاص. 

رئة الأرض ارتاحت بعد أن عاد الأكسيجين لمعدلاته الطبيعية وتوقفت المصانع عن نشرالتلوث السام وكذلك الطائرات والقطارات بعد إلغاء رحلاتها..ثمة شيء واحد وفير متاح: هواء أكثر نقاء وجودة، فازدهر اللون الأخضر وغطى جسد العالم المنهك. هذه أكثر مدن العالم تلوثا ، نيودلهي ، تسترجع سماؤها زرقتها وينير قمرها من جديد وتتلألأ نجومها وتكسر ذلك الحاجز الضبابي المعتاد.

حتى الحيوانات والطيورخرجت تتجول وتستكشف بيئتها بمجرد أن دخل الإنسان للأقفاص..مشهد مدهش تلك الباندا المسكينة التي كانت عقيمة لأكثرمن عشر سنوات عادت إليها غريزتها في التكاثر بحديقة الحيوان بعد أن اختفى الزائرون وضوضاؤهم. 

إنها المنحة عندما تولد من بطن المحنة تبعث للإنسان رسالة مفادها: أنت بلا فائدة ، الأرض والهواء والماء والسماء بدونك بخير. وعندما تعود ، تذكر أنك ضيفي وليست سيدي، فأحسن ضيافتك ولا تفسد كوكبي!
ننام في شأن ، وغدًا نستيقظ ونصبح في شأن آخر، وسيرحل كورونا..ومن المرجح أن يرحل غاضبا لأن منحته أّهدرت بلا فائدة..أو ربما لأنه يشعر بالإهانة في مجتمع ذكوري يؤنث فيروس كورونا..وهكذا هي المنحة لا يلتقطها سوى الأذكياء!






اخر الاخبار

  • خطاب بايدن تهنئة لطالبان بأمارة اسلامية فى آسيا

    • 18/08/2021 02:06:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى مثيرا للجدل الخطاب الذى القاه الرئيس الأمريكى معلنا انسحابه من أفغانستان بعد سيطرة طالبان عليها بالكامل فى ساعات . وللحقيقة وهذه هى مسئولية الشعب الأمريكى أن يسأل ( بايدن ) عن خطورة هذا القرار وما نتج عنه وأمريكا كانت القوة التدميرية لها بعد الحادى عشر من سبتمبر وفى حربها على أفغانستان أى حربها على ( طالبان ) كانت بكل المقاييس من أقوى الحروب وتكلفة مالية لم يسبق لها مثيل ...

  • حقوق الأنسان بين الحقيقة والتصنع

    • 16/03/2021 08:16:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى كلمة " حقوق الانسان " اصبحت كلمة مطاطة عديمة للجدوى لأنها تفهم منقوصة ومجردة من أعماقها لدى المتشدقين بها . من الملاحظ انها يتم فهمها من نظرة ضيقة افقدتها أجمل المعانى التى نصت عليها القوانين الدولية التى نعترف بها . فمن قام بتجريد الكلمة من معانيها الحقيقية ، لتتحول للمنظور الضيق الذى تبناه ( رعاة عدم الفهم ) فى ظل نظام دولى ينتقى المفردات ، ويتحلل من معانيه...

  • مبادرة القاهرة للوضع فى ليبيا بداية للأستقرار فى ليبيا

    • 06/06/2020 08:47:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم محمد العطيفى استطاعت القاهرة اليوم أن تخرج بالمبادرة الهامة لخلق الاستقرار فى ليبيا وبداية الحوار بين الأطراف الليبية لأيجاد المخرج الصحيح من أزمة مدمرة عاشها الليبين تجرعوا فيها العديد من ويلات حروب وعدم استقرار . هذه المبادرة بمثابة خطة طريق للوصول الى الأمن والسلام المفقود فى ليبيا منذ عام 2011 وحتى هذه اللحظة وهى المخرج الوحيد الذى يجب فورا استثمارها كفرصة لن تعرض مرة اخرى بنوايا صاد...

  • الخروج من سجن الكورونا

    • 02/06/2020 06:40:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى يستعد العالم الى العودة الى ماقبل كورونا بعد أن هدد هذا الفيروس اللعين حياة البشر ؛ ليشهد عام 2020 منذ بدايته ولمدة نصف العام حالات هلع ورعب وخوف لم تشهدها البشرية الا منذ سنوات بعيدة لم تشهدها الأجيال الحالية من قبل . فكانت هناك العديد من الاوبئة والامراض التى فتكت بالشعوب سابقا منها على سبيل المثال لا الحصر الكوليرا ؛ الانفلونزا الاسبانية بالاضافة الى ايبولا والعديد من ال...

  • المحنة .. والمنحة

    • 15/04/2020 07:01:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم الاستاذة : الفة السلامى ماذا فعلت أزمة كورونا بالعالم ؟! انظروا من حولكم وتأملوا.. فجأة باريس تفقد عشاقها و رومانسيتها ؛ برج ايفيل والشانزليزيه يذرفان دموع الشوق على ثمانين مليونا من عشاقهما السائحين الذين سيهجرون محبوبتهم فرنسا هذا العام "بجنها وملائكتها"! شاهدوا ديزني لاند بين عشية وضحاها قافرة هجرها السحر والساحر.. ولومبارديا العاشقة الجريحة أضحت بلا قلب يتخاطف فيها الإيط...

  • القدس والاقصى الشريف بين التطبيع والتثقيف

    • 22/07/2019 12:10:00 م
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى التطبيع كلمة مخيفة لدى البعض من العرب ، هى كلمة تخويف وتحمل العديد من المفاهيم البالية لدى عالمنا العربى .لان جزء من افكاره أما مستقاه من الاعلام ، أو من أحاديث متداولة نتناقلها كالاساطير . عالمنا العربى كاره للعنصرية ، ويطالب بعدالة أجتماعية ، وديمقراطية وحقوق أنسان ، المدينة الفاضلة ( لافلاطون ) الا على نفسه ، لذا نحن المثاليون من خلال الرؤية الواحدة . سألت مرارا العديد...

  • القدس والاقصى الشريف بين التطبيع والتثقيف

    • 22/07/2019 12:09:00 م
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى التطبيع كلمة مخيفة لدى البعض من العرب ، هى كلمة تخويف وتحمل العديد من المفاهيم البالية لدى عالمنا العربى .لان جزء من افكاره أما مستقاه من الاعلام ، أو من أحاديث متداولة نتناقلها كالاساطير . عالمنا العربى كاره للعنصرية ، ويطالب بعدالة أجتماعية ، وديمقراطية وحقوق أنسان ، المدينة الفاضلة ( لافلاطون ) الا على نفسه ، لذا نحن المثاليون من خلال الرؤية الواحدة . سألت مرارا العديد...

  • صفقة القرن فى إجازة حتى ربيع ٢٠٢٠

    • 24/06/2019 02:48:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    تعتبر صفقة القرن هى الشغل الشاغل بين كابوس يراه البعض وآخر يرى أنه الأمل فى نهاية الصراع العربى الفلسطينى الذى تقارب من عمر يتجاوز مائة عام . وبالرغم من مبادرات للحل الا انها تقابل بالرفض أو بالتعنت من الجانب الاسرائيلى ، الذى لايرتدع بل لاتشغله القرارات الدولية فى قضية تحتاج المرونة وتقديم التنازلات من كلا الجانبين اذا كانت هناك رغبة ونية صادقة من أجل السلام الذى يرتضى به الطرفين المتنازعين ...

  • ليبيا بين الواقع وعدم رؤية للمستقبل

    • 04/05/2019 09:04:00 ص
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى قررت كتابة هذا المقال ونحن نستعد لنستقبل شهر كريم هو شهر رمضان المعظم شهر التسامح شهر الله وتلبية لرغبة العديد من الليبيين والليبيات ممن اتصل بهم من مدن شتى على الاراضى الليبية . - طال أمد الصراع فى ليبيا منذ عام 2011 ، والعالم يتمنى لها الاستقرار والعودة ليكون لها دورا فعالا على الساحة الاقليمية والدولية . لكن من الواضح انها غرقت فى آتون الحرب الاهلية منذ عام 2011 ور...

  • الى ما يسمون الاسلام السياسى ... انتهى الدرس ايها الارهابيون

    • 27/04/2019 04:11:00 م
    • |
    • رئيس التحرير

    بقلم : محمد العطيفى رغم الدروس الكثيرة التى عاشها العالم العربى ، والتى جعلت من المواطن العربى اليوم أكثر نضوجا وفهما وقدرة على التمييز بين ماهو بخس وماهو نفيس ، الا أن التيارات الاسلامية وهى تلفظ انفاسها الاخيرة على عتبة الوعى الشعبى العربى ، والذى ينتفض اليوم هم من ينفضون غبار سنوات مرت اليمة ، لم يجد فيها المواطن العربى سوى زيف ودجل اهل هذا التيار الذين كانوا يتمنوا فى يوم ما رضى الدولة...


التعليقات

اضف تعليق